هنا مساحة آمنة، عن فلسطين. ليس مثلها، في فلسطين، المدمّاة الآن بحرب تكاد وحشيتها تقارب وصف ال أسطورية. هنا، معرض « ما تقدمه فلسطين للعالم » في معهد العالم العربي بباريس، حي ث تضامن سيّال، زمناً ومكاناً، ال حكاية تُحكى وتُعاد وتتشعب، لا تحدها سنوات أو حدود، ولا يكاد يستقر الرأي على ما إذا كان هذا احت فاء مديد أ م نكبة لا تنتهي عند أعوامها الـ75 التي يتم إحياء ذكراها. هنا تظاهرة مضمرة وعلنية، لا تشتبك مع شيء، لا قرارات الحكومة الفرنس ية، ولا عناصر إنفاذ القانون، و لا الخطاب الإعلامي المنجدل بأطياف ال كافة… لكن الحقيقة أن المتلقي يقبع في وسطها ذائباً فيها، متماهياً معها، م ستسلماً لها، رغم اللا-جديد، بل ربما بسبب أنه ليس جديداً، واستمر أكث ر مما يحتمل البشر وتحتمل القصص.
(الفلسطيني معن حماد)
إنما، فعلاً، ما الذي تقدمه فلسطين للعالم؟ كيف وهل يختلف الآن فيما تحترق غزة وما زال الفلسطينيون يُقتلون بشتى أنواع الأسلحة والحِصارات؟ أسئل ة تخيّم على الجولة، من الصال ة الأولى الممهورة بتوطئة من أسئلة بول غ وغان الشهيرة « من أين نأتي؟ ما نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ». . يقوني « أسير عاشق »، وكان أكبر كتاب لمؤلف غربي عن الف لسطينيين في نضالهم.
(الفلسطيني سليمان منصور)
بعد أسئلة غوغان، تتكشف إجابات فلسطينية، ليز تشكليين ومصورين وفنانين، بلأيضاً من منظور فناني ن من أنحاء العالم، من أوروبا، أميركا اللاتينية، والعالم العربي، قرروا منح أعمالهم تحف الوطني للفن الحديث والمعاصر في فلسطين. ليس لأن تلك الأعمال هي عن فلسطين بالضرورة أو بالمباشر، لكن إحساسها تحتله النواة نفسها. مثل منحوتة « طوطم البحر: أسير » للفرنسي سيرج بويه-كوفاكس. أو تلك الثلاثية هائلة الحجم للفنزويلية أنابيل غويريرو، حيث ثلاث ص ور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لثلاث نساء فارعات الطول (أو هكذا يظهرن )، نساء إثنية « الغواييرا » في وسط فنزويلا وجزء من كولومبيا. امرأة منهن معها مفتاح، وأخرى معها طفل، وأخرى مع « وايرناس » (اللباس ال تقليدي). الموتيفات الصغيرة لا تخطئ المراد. Il y a beaucoup de choses à faire et à faire en sorte que les gens se sentent à l’aise et à l’aise avec eux. … عبارات تتكرر خلال الجولة، في الرأس وعلى الجدرا ن… إلى أن يحضر الذي لا يغيب أبداً: محمود درويش.
(الفرنسية آن ماري فيلار)
لا يصيب درويش هنا ما يلقاه في المجلات والمواقع والشبكات الاجتماعي ةمن استنزاف حدّ إرهاق ذكراه وعب قريته. هنا درويش هو من جُملة « ما تقدمه فلسطين للعالم » من أجمل تقدماتها، مث لما أنه مما قُدِّم لفلسطي oui. سؤاله: « أين أنا؟ هذا سؤال الآخرين »، وذلك الفيديو الذي لا ننفك ننبشه من « يوتيوب » لنهيم مع إلقائه قصيد ة « مديح الظل العالي » في حضور ياسر عرفات وجورج حاوي وعديد من الشخصيات اللبنانية والفلسطينية واليسارية، ومع ظمهم صار الشهيد أو الراحل. . لصورة اكتظاظ على معبر. لـ »إعصار » عبد الرحمن كتاتاني المصنوع من الأسلاك الشائكة. لـ »المسيرة الطويلة للشعب الفلسطيني » من صنع الأرجنتيني خوليو لوبار ك بألوان قوس قزح، متعرجة ومتداخلة ، وعبثية أحياناً، لكنها واضحة وضوح الضوء وألوانه المتكسرة. ولـ »شارع صلاح الدين »، هذا الذي يُسمع كثيراً الآن في نشرات الأخبار، لكن خبره هنا هو وجوه الناس، السائر كل منهم في اتجاه، وكل إلى هدف، أو على غير هدى، لا يهم، فالملفت أنه ليس بينهم وجه باسم، غير c’est الحزن ليس هو ما يُرى، بل ملامح بأس، قوة استمرار محضة. هم في فلسطين « الأرض المقدسة… الأرض المأهولة » بحسب عنونة أحد فروع الم عرض، حيث صور صيادي السمك منذ أكثر مـ والشاب الطائر بلَوح التزحلق، والرائي ينزلق، مثله، في انسيابية ذاكر ة ومعاصرة، ليصل إلى تلك القصة المذهلة، المعروفة إلى حد كبير، لكنها، هنا وبالا حتكاك المباشرمع « أشيائها »، تصيب في القلب والعقل مكمن الدهشة…
(الفرنسي جو فارغاس)
قبل وفاته بـ15 يوماً في نيسان 1986, أحضر الكاتب والمناضل اليساري الفر نسي، جان جينيه، لمحاميه، حقيبتي ن مليئتين بالمخطوطات. ما الثمين إلى هذا الحد؟ حياته كلها. كان هذا المسرحي والشاعر الذي عاش 76 عاماً، قد أعلن في سن الخمسين تنك ره للكتابة وتخليه عنها. فماذا يفعل إن لم يكتب؟ الإجابة كانت في الحقائب، إذ دوّن، خِفية، ورغماً عن رغبته في الصمت، على كل ما وقعت عليه يداه، قصاصات صحف، فواتير فنادق، كتيبات… ملاحظات عن كل شيء ولا شيء: السجن، الكتابة، المثلية، السينما، وال Il s’agit de : عن أعوام عديدة قضاها مرافقاً « الفهود السود » في الولايات المتحدة، وا لفدائيين الفلسطينيين في لبنان ومنافي هم المتعددة. هو الذي شعر، في أيار 1968، للمرة الأولى، وبزخم من الثورة الطلابية الفرنسية، أن تمرده الفردي والخاص يجد صداه في حركات جماعية، فانخرط في ا لاحتجاج العام إلى جانب جان بول سارتر ومارغريت دوراس وميشال فوكو، عل ى ظروف حياة السجناء والمهاجرين في فرنسا. لكن عامه السياسي الأكبر كان 1970, عندما انضم إلى « الفهود » في أميركا بط لب منهم، وبعد ذلك بعامين، التص ق بالكفاح التحرري للفلسطينيين الذين » أربع ساعات في شاتيلا » الذي نشر في » مجلة الدراسات الفلسطينية » بعد تلك ال رحلة الدوية إلى المخيم الفلس طيني في بيروت، التي رافق فيها صديقته الماضلة ليلى شهيد، خلال المجزر ة وبعدها. صفحات من النص الأصلي ومخطوطه هنا خلف الزجاج. الأصل يجعل المضمون وسياقاته عملاً فنياً، وعملاً سياسياً آخر، الآن ، كمالة العمل الفني/السياسي الأول.
(جان جينيه)
مما كتب جينيه عن شاتيلا: « الحب والموت، هاتان الكلمتان تتداعيان بسرع ة كبيرة عندما تكتب إحداهما على الور ق. ء الوحيد من وجهه، الذي تمكنت من رؤيته، كان بنفسجياً وأسود وب الممزق.ما أصل الجرح: حربة، أم سكين، أم فأس، أم خنجر؟ ذباب فوق الج رح وحوله .
الإجابة إذاً المعقّدة. ما تقدمه فلسطين للعالم، ليس في غير مجرى ما يقدمه أي وطن أو شعب. القصة دوماً قصة، درامية وجميلة وكثيفة ومأسوية، تنساب في عروقها الدماء.. أو تنزّ من جروحها. وكيف يختلف هذا الآن عن 75 عاماً خلت؟ الحرب على غزة تقول إن الاختلافات ليست جوهرية. وهذا، في حد ذاته، هو الاختلاف الجوهري عن سائر بقاع الأرض. الظُّلم هو أن تبقى القصة بلا خواتيم ثم بدايات، ثم خواتيم وبعدها بد متجددة… والأدب والشعر، وإلا فهو ال قهر.
ما تقدمه فلسطين للعالم، ملحمتها الغنية والأليمة. تقدم ناسها، الذين في اللوحات، أو أمامها حاملين الريشة، وحاملي الك اميرات والدفاتر والأقلام والحقائب، ونا سها الذين في شاشات التلفزيون ينزفون أو يدفنون أحبّة. فماذا يقدّم العالم لفلسطين؟
« Maven de la bière. Expert du Web. Troublemaker de longue date. Organisateur en herbe. Communicateur général. Gourou de la télévision. »